الاثنين، 21 يونيو 2021

انتكاسة

 يحدث كثيراً أن تصاب بانتكاسة تفقدك بوصلة حياتك، تبعثر أوراقك، تحطم أهدافك وأنت في محاولات متكررة لاستعادة روح قد بهت ضوؤها.

دعها كما هي لفترة من الزمن.
أنت لست الرجل الحديدي أو الرجال الخارق؛ أنت إنسان نفس وعقل.
طريق العودة يبدأ بالصفاء والاصطفاء في ترتيب يومياتك، في علاقتك مع الله والتوكل عليه واليقين به دون سواه؛ والتوفيق أولاً وآخراً من وإلى الله.
من يخبرك بأنك أنت بذاتك صانع قراراتك فأعلم أنه محتال، دجال لا يفقه من الحياة الشيء الكثير سوى أن يكون عبداً للمال أو على أغلب الظن أنه قد ورث ماله عن أبيه دون أي عناء منه.

لم أعتد على هكذا بوح.
ليس من خوف التأطير ضمن إطار السلبية أبداً لكن من واقع ما الذي سأجنيه جرّاء كتابتي هذه سوى التفكير من زاوية منتكسة، منكسرة يبتهج بها البائسين، المحطمة قلوبهم ولا عزاء لمن وجدوا الحياة ملاذاً، من طال أملهم نحو حياة دنيوية خالصة؛ يقول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، ولهذا أدرك السلف رحمهم الله حقيقة طول الأمل بقولهم: من طال أمله ساء عمله.

تلك الزاوية من التفكير مشؤومة، معيوبة وإن تضمنت فيها قصر الأمل والتفكر بالآخرة من حيث عدم وجود الرضا بقضاء الله وقدره شريطة العمل بالأسباب، تخذلك الحياة ولا تتحقق لك النجاحات لحكمة أرادها الله أو ربما بذنب صغير متراكم أو كبير لا يغتفر!
أن تعيش وفق قناعة حتمية بأنك لست إلا عابر سبيل لآخرة دائمة مستدامة هو استثمارك الحقيقي؛ ولا تكذب أبداً ولا مطلقاً بشأن نيّتك في هذه الحياة.
وما بين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " الناس أربعة رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يعمل في ماله بعلمه، فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الأجر سواء، ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله بجهله، فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الوزر سواء " وبين قول الإمام الحداد رضي الله عنه في ذلك : ويشترط لصدق النيّة أن لا يكذّبها العمل؛ فمن يطلب العلم مثلاً ويزعم أن نيّته في تحصيله أن يعمل ويعلّم، فإن لم يفعل ذلك عند التمكّن منه فنيتّه غير صادقة، وكمن يطلب الدنيا ويزعم أنّه إنّما يطلبها لأجل الاستغناء عن الناس، والتصدّق على المحتاجين، وصلة الأقربين فإن لم يفعل ذلك عند القدرة فلا أثر لنيّته؛ يأتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " نيّة المؤمن خير من عمله " بشرط أن يكون صادقاً، مخلصاً في نيّته ومسعاه.
 
عبثية هذا السرد تماماً هو مثل عبثية اتّباع الهوى وطول الأمل بين أن تطمح لمنصب وجاه بين الناس وبين أن تستثمر لآخرتك في الدنيا وقلّما تجد من يؤازرك على ذلك من القول الصالح والفعل الصادق لله وحده؛ وإن عشت منتكساً بين الناس لكن راضياً بقضاء الله صرت ممن قال فيهم الحلاج:
وليت الذي بيني وبينك عامر       وبيني وبين العالمين خراب

الجمعة، 18 يونيو 2021

الكرم

في قصة أوردها ابن كثير في البداية والنهاية عن الأعرابي وعبيد الله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي هو أصغر من أخيه عبدالله بن عباس بسنة واحدة، وهو ابن عم النبي محمد صلى الله صلى عليه وسلم.
وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا؟
فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة (الشاة الصغيرة) التي حياة ابنتك من لبنها
.فقال: إنه لا بد من ذبحها. فقالت: أتقتل ابنتك؟
فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها، ثم هيأها طعاماً فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال؟
فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك
. فقال: إدفعها إلى الأعرابي.
فقال: سبحان الله! تعطيه خمسمائة دينار، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم؟
فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده
.

وفى قصة أخرى تعود إلى سنة 1872 عندما كان صبي مجتهد يدعى هوارد حيث كان يجوب شوارع مدينته الصغيرة ليبيع السلع عدا أنه لم يستطع بيع مما عنده.
آثره التعب والإرهاق وهو بحاله هذا قد أصابه اليأس فاضطر إلى أن يطرق أحد البيوت ليسأل عن كوب من الماء علّه يحظى بوجبة تشبع بطنه؛ فتحت فتاة له الباب وهو يقول بخجل واستحياء هل لي بكوب من الماء؟ لم يعتد أن يطلب أحداً أو يتوسّل لأجل عيشه.
أدركت الفتاة في ملامحه التعب فأرفقت معه كوب من الحليب فشربه؛ كانت فقيرة من أن تأتيه بالطعام. شرب الحليب وهو يتصنّع دفع ثمنه بسنتات كانت معه إلا أنها رفضت ذلك تماماً بقولها: علمتني أمي ألا نقبل ثمناً لفعل الخير!
هي سنوات عجاف مرّت على هوارد في رحلة من المشقة والصعاب ليكمل دراسة الطب
حيث فطنه وأصبح من رموزه فيما بعد في قسم علم طب النساء ليشارك في تأسيس مستشفى جونز هوبكنز الشهير.
تأتي الأقدار من حيث لا نتوقع؛ فجاءته إمرأة مغمى عليها في المستشفى وهي بحالة خطرة فاستدعوا هوارد لعلاجها فعرفها منذ تلك اللحظة واستعادت به ذكريات مؤلمة وموقفها مع كوب الحليب. أنقذ حياتها وعندما طلبت فاتورة الحساب بخوف ووجل من تكاليف العملية الباهظة وجدت ضمن الفاتورة عبارة كتبت باللون الأحمر: هذه فاتورة مدفوعة بالكامل بكأس من الحليب.

لا يحمل الكرم منطق الأخذ والعطاء، كم دفعت وكم ينبغي أن أتحصّل من الفائدة.
ولا يحمل معاني قلبية في الاستفادة من الخدمات أو الأعطيات وإنما هي حالة تجودها النفس ونابع من كرم في الأخلاق نيتها لله أولاً لا لتعظيم الناس له.

افعل ذلك مع الفقير المستضعف الذي يجوب الشوارع في حرّ الصيف وشمسها الحارقة دون أن تشعر بأن لك فضلٌ أو منّة إنما هو توفيق من الله لما أعطاك وليس من ذكائك أو اجتهادك ولا تغتر بعقلك الضحل كما فعل
قارون مع التباين طبعاً عندما أغناه الله عن أهل الأرض وكنز الدنيا ليختبره فما قال قارون إلا عبارته ( إنما أوتيته على علم عندي ) أي اكتسبته بجهدي وتعبي وذكائي فما كانت النتيجة سوى (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)

وقد استوعب النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الكرم والصدقة فقال: سبق درهم مائة ألف درهم. تعجّب الصحابة رضوان الله عليهم؛ بأي منطق واعي هذا الدرهم أفضل من المائة؟ فقالوا وكيف ذلك يارسول الله؟ فقال:كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما بينما الآخر أخذ من عرضِ ماله (من بعض ماله) وتصدق بمائة ألف درهم؛ يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الصدقة ليست بالكثرة وإنما ما كان من طيب خاطر وإخلاص بالنية، والمعيار الإلهي في تقديره الصدقة من حيث الحاجة فالفقير الذي تصدق بدرهم هو تصدق بالنصف وهو أفضل من الغني المترف الذي تصدق بجزء من ماله.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها مع بريرة وقرص الشعير، وكانت صائمة، وجاء مسكين، فقال: صدقة يا آل بيت رسول الله.
قالت عائشة: يا بريرة أعطي السائل، قالت: ما عندي ما أعطيه، إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب، فماذا قالت أم المؤمنين؟ هل قالت: احفظيه لنا؟! لا، بل قالت: أعطي السائل القرص وعند المغرب يرزق الله، فذهبت بريرة وهي تتغنى بقول عائشة : عند المغرب يرزق الله، ثم جاء المغرب ما رزق الله، قامت تصلي أمامها، وبريرة جلست تريد أن ترى رزق الله، فما خرجت أم المؤمنين من صلاة المغرب والتفتت إلا وشاة كاملة أمامها بقرامها، فقالت أم المؤمنين لـبريرة : ما هذا يا بريرة ؟ قالت: والله أهداه إلينا رجل، والله ما أهدى إلينا قبل ذلك قط. ماذا قالت أم المؤمنين؟ قالت: يا بريرة! كلي فهذا خير من قرصك.

يأتي الكرم من خلال صفو النفس وطيبة في الأثر في استشعار أن المال مال الله والرزق آتيك لا محالة بحسب اليقين والتوكل على الله والبذل بالأسباب، في ذلك تهذيب النفس عما تحب وتكره ولذلك يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والمنكر والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم)