الأربعاء، 11 نوفمبر 2020

يوم غير اعتيادي

 لم يكن يومي اعتيادياً – أي روتينيّاً – كباقي الأيام.
كان مختلفاً للحد الذي أستطيع به رؤية الأشياء بشكل مختلف.

على الرغم من أنّني أرتدي نفس النظارة ونفس العدسة الزجاجيّة التي ارتديها كل يوم، مع ذلك كانت تفاصيل الحياة أكثر وضوحاً وربما أكثر بهجة.
حتى جاري الذي اعتدت مناكفته في الصباح لم يتكرر هذا الفعل ولأول مرّة.
شعرت وقتها بشعور غريب لم اتكهّنه للحظتها، الغريب في الأمر أنه بادر بالسلام من تلقاء نفسه.
وتأتي تلك التساؤلات المبعثرة تقتحم عقلي فيما إن كان مريضاً أو حزيناً لوفاة قريب له أو ربما قد سرّح من عمله مما عكّر صفوه وبعثرت أحلامه وخططه التي تنبّا بها مسبقاً نتيجة عارض ما لم يكن في الحسبان، وهذه الأفكار إنما أتت نتيجة ملامحه المتجهّمة عدا ذلك لافترضت النقيض تماما من السعادة والبهجة.

وأنا على هذه الأفكار يأتيني اتّصال مباغت من صديق طفولة لم نكن على وفاق حينها عدا أن الحياة تفعل فعلتها في المفاجآت وتتحوّل تلك العلاقة الرديئة والمشحونة بالغضب والمنافسة إلى علاقة واعية تتميّز بوجود أرضيّات مشتركة يكمّل فيها أحدهم الآخر.
سألني عمّا إن كنت متفرّغا في المساء حتى نستكمل الخطّة.
وأنا أفكّر بصوت منخفض عن الخطّة التي يقصدها؟ إذ أن الخطط فيما بيننا كثيرة والتي ننوي استكمالها خطّة تلو خطّة؛ والحقيقة فإننا نكمل بعضها ونتوقف عند بعضها متى ما طرأت فكرة أفضل!
ذلك الاتصّال أيضاً كان مختلفاً.
لم يرسل رسالة جامدة كعادته في التواصل وإنما اتصّال هاتفي بدأ حديثه بعبارة: اشتقت إليك. آمل بأن تكون متاحاً الليلة على أمل أن نلتقي في المساء، لديّ ما يسرّك ويبهجك، يكفي فقط أن تكون على الموعد في نفس مكاننا المعتاد، ويختم حديثه : متشوّق لضحكة عينيك بعد سماعك الخبر، كن بخير يا عضيد.

وأنا في طريقي إلى الخارج وجدّت الزهرة البيضاء والتي اعتني بها في كل صباح وجدتها اليوم مبتسمة. نعم زهرة تبتسم لي لكن لأول مرّة!
والقطّة الأم التي تعيل قططها الصغار وجدّتهم حولي جميعهم ينتظرونني حتى أناولهم طعام الإفطار ومواءهم وأصواتهم كانت أيضاً مختلفة على غير عادتهم.
كانوا مختلفين.
كانوا بحاجة إلى اللعب وبعض التطبيب اللطيف التي تشعر معها القطط بالأمان والسكينة. فعلهم كان إشارة على أنهم يبادلونني الحب وأنهم بذلك يشاركونني ذلك الاهتمام وذلك الأمان.

أ تعلمين ياحبيبتي لم كان يومي مختلفاً؟
بسبب الرسالة التي استقبلتها منك اليوم والتي تقول:
وأنت في أسوء أحوالك، وفي أحلك ظروفك وفي أشدّ معاركك العقليّة والنفسيّة التي تخوضها منفرداً و لوحدك .. تذّكر بأني أحبّك للحد الذي ينتشلك من غمامة السواد التي تحاصرك إلى نعيم الطمأنينة .. تذّكر جيّدا بأنّي سأقاتل وسأحارب معك وفي كل وقت.
أحبّك. 

السبت، 7 نوفمبر 2020

لم يخذلونا بل كنّا حمقى

 أفضل درس مجّاني ومدفوع التكاليف ويغنيك عن ألف دورة ونصيحة يمكن أن يتعلمه إنسان على وجه الأرض هو درس الخذلان. درس مهما قرأت عنه، ومهما كنت تحمل من الذكاء الشيء الكثير ومهما سمعت من تجارب الآخرين إلا أنك لا تتعلّمه إلا بعد أن تدفع ثمنه من الألم والحسرة وقد يستمر كندبة مخفيّة أو تظهر عبر سلوك عدواني ناتج عن حماية لا إرادية من درس آخر محتمل أو ربما تمتلك الإرادة الواعية لتجاوزها بحنكة وبأقل الأضرار.

ويأتي نتيجة سببين اثنين واضحين وضوح الشمس:
- الخبرة الغير كافية
- رفع سقف الطموحات

احفظها جيّدا وأعدك بألا تٌخذل مجدداً طيلة سنوات حياتك الباقية.

ما سبق هو أمر بديهي ندركه بالتجربة.
لكن اللابديهي في الأمر وكعادتي في الكتابة وتحرّي وانتقاء زاوية تفكير مختلفة واستثنائية هو الجواب على سؤالين اثنين:
- لماذا نكرر نفس التجربة أحيانا باختلاف معطياتها؟
- كيف نتجاوز الألم بأقل الأضرار؟

دعونا يارفاق نصمت دقيقة صمت حداد على جميع أولائك الذين خُذلوا بغضّ النظر عن الأسباب والظروف والمعطيات عدا أن الموقف يستدعي معه التعاطف كشعور إنساني حيّ أو ربما تجسيد لنظرية اجتماعية تعرّب وتعرّف بالكلب المستضعف (The Underdog Effect)
بالتالي الشماتة في هذا المقام حتى لمن مارس دول الخاذل ودارت عليه الدنيا وأصبح في موقف المخذول به هو أمر خطير ننأى عنه كسِمة حلم وعقل نسعى الوصول إليه.

وبالتالي وحتى نستفيض في الشرح فإن العادة قد جرت فإننا نعيش ونتعايش في حياتنا ضمن مبدأ النفعية القائم بالأخذ والعطاء عدا إننا في بادئ الأمر نتحرّى عن الأشخاص وفق معايير مثل: اختبارات وسلوكيات وأحاديث تقيّم مدى حسن أو سوء الشخص من خلال الأفعال، المبادئ، التصوّرات والأرضيّات المشتركة التي تمثّلنا بالضرورة وقد تنجح وتفشل تلك العلاقة مع الآخر بحسب قوّة وضعف المعايير وهنا تكمن الصدمة.
الإنسان هو كائن اجتماعي رغب بذلك أم لم يرغب، طوعاً أو كرهاً المهم أن يدرك الحد الأدنى من واجباته وحقوقه تجاه الآخر (ماله وماعليه) ومن هذا المنطلق فإن تقديم الحد الأدنى لا ينتج عنه تطوّر للعلاقة التي تأخذ مجراها مع الوقت سواء كان ناتج عن عدم اتفاق المعايير أو خوف من الخذلان ولذلك نجد أنفسنا نستجيب لعاطفتنا ومنطقنا بأن المضي قدما لطور العلاقة تستحق التجربة مع استيعاب حسناتها وسيئاتها ولذلك نعيد ونكرر نفس التجربة باختلاف معطياتها.

أمّا جواب السؤال الآخر فهو أكثر صعوبة لما يحمله من آثار نفسيّة ومنطقيّة لها تراكماتها على المدى البعيد، وجواب لسؤال كيف نتجاوزها فهو معضلة مازلت أعيشها ولم تسعفني خبرتي الحياتية لإدراك هذا الجانب العميق ولذلك فأجد نفسي متورّطا إلى هذا اليوم وهذا العمر في كشف دهاليز الجوانب العلاجيّة لأن خبرتي فيها تخذلني وبكل أسف.

الحياة تستحق التجربة في أي علاقة كانت.
المهم والأهم ألا ترفع سقف الطموحات وأن تتوقع الخذلان ولا تسلك سلوك الحذر الخائف مما قد يصيبك لأنها تفقد بريق وجودة العلاقة في وقتها.
ثق بالله أولً وآخراً، وثق بنفسك واستمتع بالحياة كما ينبغي.

الجمعة، 6 نوفمبر 2020

كافكا وشعلة النار

ضمن رسائله التي كتبها إلى حبيبته ميلينا.
يبدأ كافكا باستعراض أدبيته في عدم جدّيته للخوض في أي علاقة حب نتيجة تجارب حب فاشلة وخيبات أمل كثيرة جعلته يعبّر عما يختلج في وجدانه دون أن يعبأ للعواقب وربما الفرص الجميلة التي يمكن بسببها أن يفقدها جرّاء طيش وتبلّد: 
"لن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدّة يومين، أنا رخو، أزحف على الأرض. أنا صامت طول الوقت، انطوائي، كئيب، متذمر، أناني وسوداوي. هل ستتحملين حياة الرهبنة كما أحياها؟"
ثم يقول بجملة صريحة لا تتطلب التأويل: "لا أريد تعاستك يا ميلينا، أخرجي من هذه الحلقة الملعونة التي سجنتك فيها، عندما أعماني الحب"

ويأتي ردّها البارد: " وإن كنت مجرّد جثّة في العالم؛ فأنا أحبك "
هذا السيناريو وهذه الحبكة هي نتيجة وعي وإدراك متأصل لكليهما وفي فهم الدواعي النفسيّة فيما وراء تلك الرسائل.
ثقة مفرطة، تفهّم، احتواء وتقبّل الآخر بسجيّته لا كما يرغب به الآخر.
هذا الحب يتجسّد بأحد رسائله عندما كتب: " مجرّد أن أكتب لكِ يهدأ عقلي"
أحبّت أفكاره رغم ظلاميتها وضوضائها وعبثيّتها .. أحبّها أنثى وكاتبة أحبّها نفس وعقل.  
 
فرانس كافكا الروائي التشيكي السوداوي ورائد الكتابة الكابوسية والقاصّ للمشاهد السريالية هو أكثر من يبدع في تناقضاته الصادقة.
تناقضات تحمل في كينونتها المشاعر الحقيقية.
ينتمي إلى عائلة يهودية وأب متسلّط، هذا التسلّط سبّب لكافكا شخصية مضطربة جعله يكتب كتاب أسماه " رسالة إلى أبيه "
نشأ حينها نشأة طبيعية من حيث الحياة العلمية والعملية عدا أن حياته النفسيّة والاجتماعيّة كانت في أوج اضطراباتها، الأمر الذي ساهم في خلق هذا الكاتب السوداوي المبدع، الذي عبّر عما يختلج مشاعره واضطراباته بل وازدراءه لذاته إلى مؤلفات روائية وقصص قصيرة لم تنتشر معظمها إلا بعد وفاته، ولم تكن لتنشر لولا وصيّته التي من سوء حظه وحسن حظّنا بأنها لم تنفّذ ووقع حينها تعنّت من صديقه ماكس برود الذي نشر جميع مخطوطاته وأعماله المكتملة وغير المكتملة المخالفة لوصيّته.

شعلة النار هي من أشعلت حياته وأنارت طريقه وأغدقت عليه المشاعر من فيض الحب.
شعلة النار هي من زرعت في قلبه البذرة واعتنت بها كما لو أنها تستثمر في حديقة زهور مثل التي نجدها في حديقة كيوكينهوف في هولندا.
شعلة النار رغم كونها مسيحية وهذا التعارض في الدين والقومية لم يكن ليعترض طريق القلب.
كانت ميلينا تعمل كمترجمة لكتبه ورواياته للغة التشيكية!
كافكا التشيكي الأصل لم يكن ليستمتع بلغته التشيكية أكثر من الألمانية والتي بها برز.
أحب عملها جداً ولقبّها بشعلة النار.

لم يكن كافكا بالشخص السهل المعشر والذي يميل إلى تكوين العلاقات والمنفتح القلب والخاطر وإنما على النقيض تماما وهذه الشخصيّة على صعوبتها جعلته ينظر للأمور من زاوية تفكير مختلفة تجسّدت في قلمه المبدع وهنا الحقيقة الغائبة في تصوراتنا وتعريفنا للفن والإبداع؛ هل هو بالضرورة الأدب الرخو، الإيجابي والممتلئ بالأفكار والمفردات الإيجابية والنهايات السعيدة أو مصدر آخر نستطيع به أن نعبّر عنه دون خجل وحياء ولكن بالذكاء الذي لا يجعلنا متورطين بسببه ولكن يعكس بالضرورة مدى الإبداع الذي نشعر به في الاستعارات والرمزيات وربما في تشابه القصص والتجارب، ولم تكن الحياة لتستقيم لولا التنازلات وفق مبدأ الأخذ والعطاء للمنطق البشري عدا أن الممتنع يفقد نصيبه من الأخذ بمطلق الأحوال وهذا ما فعله كافكا ونيتشه ومبدعون آخرون آثروا على أن يثقوا بذواتهم الثقة المفرطة، ضاربين بعرض الحائط الانطباعات التي يستقبلونها عن شخصياتهم المريبة وكان لهم هذا الزخم وهذا الاحتفاء ولكن بعد الممات.

كان يقول لها باستمرار: "حياة الكاتب تبدأ بعد موت مؤلفه، أو بالأغلب بعد وفاته بفترات، فأولائك الرجال التواقون يحاربون من أجل قصصهم وحتى بعد موتهم، لكن حينها فقط يترك الكتاب لوحده، ويبدأ يستمد القوّة من ضربات قلبه"
مات كافكا بعمر الأربعين، ونبضت مؤلفاته لتدرس في الجامعات ولتكون قصّته معها قصّة وحكاية تنبض بالحب والعشق حتى بعد مماته.