الجمعة، 6 نوفمبر 2020

كافكا وشعلة النار

ضمن رسائله التي كتبها إلى حبيبته ميلينا.
يبدأ كافكا باستعراض أدبيته في عدم جدّيته للخوض في أي علاقة حب نتيجة تجارب حب فاشلة وخيبات أمل كثيرة جعلته يعبّر عما يختلج في وجدانه دون أن يعبأ للعواقب وربما الفرص الجميلة التي يمكن بسببها أن يفقدها جرّاء طيش وتبلّد: 
"لن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدّة يومين، أنا رخو، أزحف على الأرض. أنا صامت طول الوقت، انطوائي، كئيب، متذمر، أناني وسوداوي. هل ستتحملين حياة الرهبنة كما أحياها؟"
ثم يقول بجملة صريحة لا تتطلب التأويل: "لا أريد تعاستك يا ميلينا، أخرجي من هذه الحلقة الملعونة التي سجنتك فيها، عندما أعماني الحب"

ويأتي ردّها البارد: " وإن كنت مجرّد جثّة في العالم؛ فأنا أحبك "
هذا السيناريو وهذه الحبكة هي نتيجة وعي وإدراك متأصل لكليهما وفي فهم الدواعي النفسيّة فيما وراء تلك الرسائل.
ثقة مفرطة، تفهّم، احتواء وتقبّل الآخر بسجيّته لا كما يرغب به الآخر.
هذا الحب يتجسّد بأحد رسائله عندما كتب: " مجرّد أن أكتب لكِ يهدأ عقلي"
أحبّت أفكاره رغم ظلاميتها وضوضائها وعبثيّتها .. أحبّها أنثى وكاتبة أحبّها نفس وعقل.  
 
فرانس كافكا الروائي التشيكي السوداوي ورائد الكتابة الكابوسية والقاصّ للمشاهد السريالية هو أكثر من يبدع في تناقضاته الصادقة.
تناقضات تحمل في كينونتها المشاعر الحقيقية.
ينتمي إلى عائلة يهودية وأب متسلّط، هذا التسلّط سبّب لكافكا شخصية مضطربة جعله يكتب كتاب أسماه " رسالة إلى أبيه "
نشأ حينها نشأة طبيعية من حيث الحياة العلمية والعملية عدا أن حياته النفسيّة والاجتماعيّة كانت في أوج اضطراباتها، الأمر الذي ساهم في خلق هذا الكاتب السوداوي المبدع، الذي عبّر عما يختلج مشاعره واضطراباته بل وازدراءه لذاته إلى مؤلفات روائية وقصص قصيرة لم تنتشر معظمها إلا بعد وفاته، ولم تكن لتنشر لولا وصيّته التي من سوء حظه وحسن حظّنا بأنها لم تنفّذ ووقع حينها تعنّت من صديقه ماكس برود الذي نشر جميع مخطوطاته وأعماله المكتملة وغير المكتملة المخالفة لوصيّته.

شعلة النار هي من أشعلت حياته وأنارت طريقه وأغدقت عليه المشاعر من فيض الحب.
شعلة النار هي من زرعت في قلبه البذرة واعتنت بها كما لو أنها تستثمر في حديقة زهور مثل التي نجدها في حديقة كيوكينهوف في هولندا.
شعلة النار رغم كونها مسيحية وهذا التعارض في الدين والقومية لم يكن ليعترض طريق القلب.
كانت ميلينا تعمل كمترجمة لكتبه ورواياته للغة التشيكية!
كافكا التشيكي الأصل لم يكن ليستمتع بلغته التشيكية أكثر من الألمانية والتي بها برز.
أحب عملها جداً ولقبّها بشعلة النار.

لم يكن كافكا بالشخص السهل المعشر والذي يميل إلى تكوين العلاقات والمنفتح القلب والخاطر وإنما على النقيض تماما وهذه الشخصيّة على صعوبتها جعلته ينظر للأمور من زاوية تفكير مختلفة تجسّدت في قلمه المبدع وهنا الحقيقة الغائبة في تصوراتنا وتعريفنا للفن والإبداع؛ هل هو بالضرورة الأدب الرخو، الإيجابي والممتلئ بالأفكار والمفردات الإيجابية والنهايات السعيدة أو مصدر آخر نستطيع به أن نعبّر عنه دون خجل وحياء ولكن بالذكاء الذي لا يجعلنا متورطين بسببه ولكن يعكس بالضرورة مدى الإبداع الذي نشعر به في الاستعارات والرمزيات وربما في تشابه القصص والتجارب، ولم تكن الحياة لتستقيم لولا التنازلات وفق مبدأ الأخذ والعطاء للمنطق البشري عدا أن الممتنع يفقد نصيبه من الأخذ بمطلق الأحوال وهذا ما فعله كافكا ونيتشه ومبدعون آخرون آثروا على أن يثقوا بذواتهم الثقة المفرطة، ضاربين بعرض الحائط الانطباعات التي يستقبلونها عن شخصياتهم المريبة وكان لهم هذا الزخم وهذا الاحتفاء ولكن بعد الممات.

كان يقول لها باستمرار: "حياة الكاتب تبدأ بعد موت مؤلفه، أو بالأغلب بعد وفاته بفترات، فأولائك الرجال التواقون يحاربون من أجل قصصهم وحتى بعد موتهم، لكن حينها فقط يترك الكتاب لوحده، ويبدأ يستمد القوّة من ضربات قلبه"
مات كافكا بعمر الأربعين، ونبضت مؤلفاته لتدرس في الجامعات ولتكون قصّته معها قصّة وحكاية تنبض بالحب والعشق حتى بعد مماته.

ليست هناك تعليقات: