الأحد، 17 أكتوبر 2021

أبناء الثقافة الثالثة

 ماذا يعني لك أن تعيش نصف هوية؟
ونصف شخصية؟
ونصف جنسية؟
هو تماماً كما قال جبران: النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز؛ لأنك لست نصف إنسان.. أنت إنسان.. وجدت كي تعيش الحياة. وليس كي تعيش نصف حياة!

سمعت مؤخراً لبودكاست أصوات وتحديداً حلقة مفقود.
عشت قصة عيدروس بكامل تفاصيلها؛ حزنت عندما اضطر الذهاب من
منجا بيسار إلى حضرموت، تعجّبت حينما امتلك حذاءً من نوع (باتا) دون أن يستخدمه، وابتسمت تارة أخرى عندما انجلت غمامة الكدر وسوء التواصل مع والده عند زيارته لأندونيسيا.
أعدت الاستماع إليها مجدداً، مجدداً علّني أجد المبرر الذي يدفع  ابنه عبدالرحمن ليتوارى عن حياة اجتماعية خوفاً من تنمّر يصيبه دون أن يكون له يد فيها!
هي أقدار ساقها الله للبشر من حيث النسب، الجمال، الحالة الاجتماعية، المادية، والجنسية.
أن ترى نفسك بعين التعظيم كونك تحمل جنسيتها لا يجعل منك شخصاً ناجحاً من حيث البقعة الجغرافية التي ينتمي إليها المواطن والمقيم الذي ولد في تربتها وترعرع في أرضها وتشرّب من عاداتها وثقافتها حتى أصبح هو و الوطن متلازمين لا إلى حدّ الشبه بل إلى حدّ الانتماء والولاء الذي يشعر به الرضيع مع ثدي أمه.

تعرّف عالمة الاجتماع الأمريكية روث هيل يوسيم أبناء الثقافة الثالثة بأنهم الأطفال الذين يقضون سنوات تكوينهم الأولى في أماكن ليست هي موطن آبائهم وأمهاتهم.
وهو أيضاً الاسم الذي يطلق على الأطفال الذين نشأوا في ثقافات غير ثقافات والديهم أو تلك التي قد تكون موجودة على جوازات سفرهم.

تتحدث نديلا فاي من أم فنلندية وأب سنغالي والمولودة في فنلندا والمستقرة في لندن في قصة نشرتها على الجارديان عن الأقنعة المختلفة التي ترتادها في كل مرة يسأل عن موطنها؛ تقول: هو أقرب إلى الشعور بالتحرر من خلال إعادة ابتكار نفسي إلا أنها تمثّل لي معضلة في هويتي والتعريف بمن أنا؟ لأني ثنائية العرق، ونظراً لأنني لم أعش في السنغال مطلقاً، أشعر بالغرابة عندما أقول إنني من هناك.


أبناء الثقافة الثالثة هم ضحيّة آباء وأمهات خرجوا للبحث عن لقمة العيش خارج أوطانهم؛ الدبلوماسيين، البسطاء ذووالأحلام الكبيرة أو أحلام العصافير على حد سواء، من تعايشوا مع عادات البلد واستوطنت أرواحهم وترسّخت عبرها اللغة والثقافة والقيم إلا أنها في نهاية المطاف تظل ثقافة هجينة لا تصل إلى مرحلة الاعتراف المطلق بل إلى هُويّة تبنى وفق وعي الفرد أو أصحاب المصلحة وأحياناً كثيرة إلى الوعي الجمعي المتراكم بالسلب أو الإيجاب.


هي تفاصيل غاضبة ستبقى ساكنة ولن تخرج ولن تسبب بفعلها الاحتقان أو الكره وردّة فعل غاضبة؛ هي تفاصيل وتساؤلات يعيشها من ينتمي إلى ثقافة الطفل الثالث الذي لا ينتمي لا إلى موطن ولادته أو موطن جنسيته الذي حملها مضطراً دون معيّة ودون أي رغبة وإدراك.
 قام عالما الاجتماع الأمريكيان ديفيد بولوك وروث فان ريكين بنشر كتاب "أطفال الثقافة الثالثة: النشأة بين العوالم" في عام 1999، واستنتجوا أن لديهم رؤية أوسع للعالم ويكونون أكثر وعياً ثقافياً لكن مع ذلك يمكن لهذا الشعور أن يولّد قلقاً وإحساساً بعدم الانتماء وهو ما يسبب مضاعفات شخصية ونفسية.

وحتى نكون أكثر تفاؤلاً؛ أبناء تلك الثقافة رغم التحديات والصعوبات المواجهة إلا أنها تعتبر قيمة مضافة من حيث التنوّع الأيدولوجي، التقاطع الثقافي والأرضيات المشتركة للفرد مع الجماعة بما يتلاءم مع المشهد؛ فهم أكثر انفتاحاً وتقبّلاً للآخر من غيرهم.
وجد استطلاع عبر الإنترنت أجرته مجلة (
Denizen) في عام 2011، وهو منشور يستهدف الأشخاص المنتمين للثقافة الثالثة في أن معظم المشاركين البالغ عددهم 200 شخص حصل معظمهم على درجات علمية، و 30٪ لديهم مؤهل دراسات عليا و 85٪ يتحدثون لغتين أو أكثر. كذلك تساعد هذه السمات في جعل أبناء الثقافة الثالثة أكثر جذابة لأصحاب العمل.

لذلك هي مسألة ليست بالسهلة الخوض في دهاليزها المتشعبة بما تحملها من جوانب سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية، ولكنها تتطلّب حتماً إلى الثقة الكامنة بالنفس وبترسيخ مبدأ التعايش وفق القيم والمبادئ الحسنة دون تعميم جوانب الكره لثلّة متعصّبة تندّد بالمبدأ الصهيوني: " نحن شعب الله المختار ".

لا تثقلوهم بعصبيتكم الجاهلية.
كفانا تعصّب.
هم منكم وفيكم وإليكم؛ شئتم أم أبيتم.
سواء أُخذت من زاويتها الدينية أو زاويتها العقلانية المتجسدة في التجربة البشرية.

الأربعاء، 21 يوليو 2021

العيد ‏عيدين

كان يوماً رطباً من شهر يوليو والساعة تشير إلى الثالثة صباحاً.
الجميع في هذا التوقيت يؤدي دوره باجتهاد لأجل الاستعداد ليوم العيد ؛ عداي أنا، فلم أفعل ذلك. رحت أركب طائرةً متوجهةً إلى موطن الطمأنينة والسلام إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
رغبت في أن تكون هذه السنة سنة استثنائية، متفردة لا تتكرر دائماً؛ كان العاشر من ذي الحجة المباركة هو يوم ميلادي!اجتمع العيدين في شخص واحد؛ عيد الأضحى وعيد ميلادي.
وهذه المصادفة إنما هي إشارة ربّانية على تحقيق فرج حان أوانه (بإذن الله)

ولكن لحالتي النفسية المضطربة عزمت على أن ابتهج لوحدي دون غير
ي.
تلك المشاعر التي تفضي إلى الوحدة في عيد الميلاد قد تبدو مرعبة لأنها تبعث للتفكير، للتساؤلات وغالباً دون الحصول على تلك  الأجوبة.
فكرت ملياً بأن العيد في حضرة جدّي النبي عليه أشرف الصلاة والتسليم قد يكون ملاذاً آمناً.. من وحشة الأفكار العبثية، المخاوف المستقبلية والمرحلة المبهمة.
الأمر يتطلب بطبيعة الحال إلى تهذيب في السلوك، استعادة اليقين بالله وفي العلاقة كاملةً والمنظومة متكاملة من الصبر على الطاعات و المعاصي.

أميل إلى الزهد والتزهد.
هذا ما 
أدركته في الآونة الأخيرة.
بأنّي
 لم أعد أطيب الحياة كما كنت أفعل دوما، هذا لا يعني بأن أعيش حياة مزرية وبائسة ولكن في استشعاري كوني عابر سبيل لحياة لا تتجاوز المائة سنة، هذا وقد ذهب مني الثلث ويتبقى الثلثين على أكثر تقدير.

أزعم بأني قد هرمت فجأة، نضجت صدفة.
لم تكن تساورني هذه الأفكار من 
قبل لأني كنت أتطلع للحياة ببهجتها الآنية واللحظية والآن أفكر ملياً بآخرتي، بعاقبتي إذ إني لست إلاعابر سبيل فحسب.
حتى قراءاتي أصبحت مختلفة، أكثر تفرداً. لم تعد تغريني الفلسفة بشتى أنواعها أو السياسة بمختلف توجهاتها أو السير الذاتية بكافة مبالغاتها.
العشق، الحب والهيام هو قراءاتي
 الحالية.
لا أقصد طبعاً حب امرؤ القيس لليلى أو عنتر لعبلى بل هو عشق إلهي يتمثل في عبارة واحدة فقط..
عبارة واحدة جسدت المفهوم للحلاج عندما قال:
فليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

العيد بمسرّاته وفرحاته إنما يتحقق بالسلام الداخلي سواء كنت وحيداً أو مع مجموعة من البشر.

الاثنين، 21 يونيو 2021

انتكاسة

 يحدث كثيراً أن تصاب بانتكاسة تفقدك بوصلة حياتك، تبعثر أوراقك، تحطم أهدافك وأنت في محاولات متكررة لاستعادة روح قد بهت ضوؤها.

دعها كما هي لفترة من الزمن.
أنت لست الرجل الحديدي أو الرجال الخارق؛ أنت إنسان نفس وعقل.
طريق العودة يبدأ بالصفاء والاصطفاء في ترتيب يومياتك، في علاقتك مع الله والتوكل عليه واليقين به دون سواه؛ والتوفيق أولاً وآخراً من وإلى الله.
من يخبرك بأنك أنت بذاتك صانع قراراتك فأعلم أنه محتال، دجال لا يفقه من الحياة الشيء الكثير سوى أن يكون عبداً للمال أو على أغلب الظن أنه قد ورث ماله عن أبيه دون أي عناء منه.

لم أعتد على هكذا بوح.
ليس من خوف التأطير ضمن إطار السلبية أبداً لكن من واقع ما الذي سأجنيه جرّاء كتابتي هذه سوى التفكير من زاوية منتكسة، منكسرة يبتهج بها البائسين، المحطمة قلوبهم ولا عزاء لمن وجدوا الحياة ملاذاً، من طال أملهم نحو حياة دنيوية خالصة؛ يقول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، ولهذا أدرك السلف رحمهم الله حقيقة طول الأمل بقولهم: من طال أمله ساء عمله.

تلك الزاوية من التفكير مشؤومة، معيوبة وإن تضمنت فيها قصر الأمل والتفكر بالآخرة من حيث عدم وجود الرضا بقضاء الله وقدره شريطة العمل بالأسباب، تخذلك الحياة ولا تتحقق لك النجاحات لحكمة أرادها الله أو ربما بذنب صغير متراكم أو كبير لا يغتفر!
أن تعيش وفق قناعة حتمية بأنك لست إلا عابر سبيل لآخرة دائمة مستدامة هو استثمارك الحقيقي؛ ولا تكذب أبداً ولا مطلقاً بشأن نيّتك في هذه الحياة.
وما بين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " الناس أربعة رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يعمل في ماله بعلمه، فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الأجر سواء، ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله بجهله، فيقول آخر لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت مثل عمله فهما في الوزر سواء " وبين قول الإمام الحداد رضي الله عنه في ذلك : ويشترط لصدق النيّة أن لا يكذّبها العمل؛ فمن يطلب العلم مثلاً ويزعم أن نيّته في تحصيله أن يعمل ويعلّم، فإن لم يفعل ذلك عند التمكّن منه فنيتّه غير صادقة، وكمن يطلب الدنيا ويزعم أنّه إنّما يطلبها لأجل الاستغناء عن الناس، والتصدّق على المحتاجين، وصلة الأقربين فإن لم يفعل ذلك عند القدرة فلا أثر لنيّته؛ يأتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " نيّة المؤمن خير من عمله " بشرط أن يكون صادقاً، مخلصاً في نيّته ومسعاه.
 
عبثية هذا السرد تماماً هو مثل عبثية اتّباع الهوى وطول الأمل بين أن تطمح لمنصب وجاه بين الناس وبين أن تستثمر لآخرتك في الدنيا وقلّما تجد من يؤازرك على ذلك من القول الصالح والفعل الصادق لله وحده؛ وإن عشت منتكساً بين الناس لكن راضياً بقضاء الله صرت ممن قال فيهم الحلاج:
وليت الذي بيني وبينك عامر       وبيني وبين العالمين خراب

الجمعة، 18 يونيو 2021

الكرم

في قصة أوردها ابن كثير في البداية والنهاية عن الأعرابي وعبيد الله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي هو أصغر من أخيه عبدالله بن عباس بسنة واحدة، وهو ابن عم النبي محمد صلى الله صلى عليه وسلم.
وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا؟
فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة (الشاة الصغيرة) التي حياة ابنتك من لبنها
.فقال: إنه لا بد من ذبحها. فقالت: أتقتل ابنتك؟
فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها، ثم هيأها طعاماً فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال؟
فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك
. فقال: إدفعها إلى الأعرابي.
فقال: سبحان الله! تعطيه خمسمائة دينار، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم؟
فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده
.

وفى قصة أخرى تعود إلى سنة 1872 عندما كان صبي مجتهد يدعى هوارد حيث كان يجوب شوارع مدينته الصغيرة ليبيع السلع عدا أنه لم يستطع بيع مما عنده.
آثره التعب والإرهاق وهو بحاله هذا قد أصابه اليأس فاضطر إلى أن يطرق أحد البيوت ليسأل عن كوب من الماء علّه يحظى بوجبة تشبع بطنه؛ فتحت فتاة له الباب وهو يقول بخجل واستحياء هل لي بكوب من الماء؟ لم يعتد أن يطلب أحداً أو يتوسّل لأجل عيشه.
أدركت الفتاة في ملامحه التعب فأرفقت معه كوب من الحليب فشربه؛ كانت فقيرة من أن تأتيه بالطعام. شرب الحليب وهو يتصنّع دفع ثمنه بسنتات كانت معه إلا أنها رفضت ذلك تماماً بقولها: علمتني أمي ألا نقبل ثمناً لفعل الخير!
هي سنوات عجاف مرّت على هوارد في رحلة من المشقة والصعاب ليكمل دراسة الطب
حيث فطنه وأصبح من رموزه فيما بعد في قسم علم طب النساء ليشارك في تأسيس مستشفى جونز هوبكنز الشهير.
تأتي الأقدار من حيث لا نتوقع؛ فجاءته إمرأة مغمى عليها في المستشفى وهي بحالة خطرة فاستدعوا هوارد لعلاجها فعرفها منذ تلك اللحظة واستعادت به ذكريات مؤلمة وموقفها مع كوب الحليب. أنقذ حياتها وعندما طلبت فاتورة الحساب بخوف ووجل من تكاليف العملية الباهظة وجدت ضمن الفاتورة عبارة كتبت باللون الأحمر: هذه فاتورة مدفوعة بالكامل بكأس من الحليب.

لا يحمل الكرم منطق الأخذ والعطاء، كم دفعت وكم ينبغي أن أتحصّل من الفائدة.
ولا يحمل معاني قلبية في الاستفادة من الخدمات أو الأعطيات وإنما هي حالة تجودها النفس ونابع من كرم في الأخلاق نيتها لله أولاً لا لتعظيم الناس له.

افعل ذلك مع الفقير المستضعف الذي يجوب الشوارع في حرّ الصيف وشمسها الحارقة دون أن تشعر بأن لك فضلٌ أو منّة إنما هو توفيق من الله لما أعطاك وليس من ذكائك أو اجتهادك ولا تغتر بعقلك الضحل كما فعل
قارون مع التباين طبعاً عندما أغناه الله عن أهل الأرض وكنز الدنيا ليختبره فما قال قارون إلا عبارته ( إنما أوتيته على علم عندي ) أي اكتسبته بجهدي وتعبي وذكائي فما كانت النتيجة سوى (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)

وقد استوعب النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الكرم والصدقة فقال: سبق درهم مائة ألف درهم. تعجّب الصحابة رضوان الله عليهم؛ بأي منطق واعي هذا الدرهم أفضل من المائة؟ فقالوا وكيف ذلك يارسول الله؟ فقال:كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما بينما الآخر أخذ من عرضِ ماله (من بعض ماله) وتصدق بمائة ألف درهم؛ يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الصدقة ليست بالكثرة وإنما ما كان من طيب خاطر وإخلاص بالنية، والمعيار الإلهي في تقديره الصدقة من حيث الحاجة فالفقير الذي تصدق بدرهم هو تصدق بالنصف وهو أفضل من الغني المترف الذي تصدق بجزء من ماله.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها مع بريرة وقرص الشعير، وكانت صائمة، وجاء مسكين، فقال: صدقة يا آل بيت رسول الله.
قالت عائشة: يا بريرة أعطي السائل، قالت: ما عندي ما أعطيه، إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب، فماذا قالت أم المؤمنين؟ هل قالت: احفظيه لنا؟! لا، بل قالت: أعطي السائل القرص وعند المغرب يرزق الله، فذهبت بريرة وهي تتغنى بقول عائشة : عند المغرب يرزق الله، ثم جاء المغرب ما رزق الله، قامت تصلي أمامها، وبريرة جلست تريد أن ترى رزق الله، فما خرجت أم المؤمنين من صلاة المغرب والتفتت إلا وشاة كاملة أمامها بقرامها، فقالت أم المؤمنين لـبريرة : ما هذا يا بريرة ؟ قالت: والله أهداه إلينا رجل، والله ما أهدى إلينا قبل ذلك قط. ماذا قالت أم المؤمنين؟ قالت: يا بريرة! كلي فهذا خير من قرصك.

يأتي الكرم من خلال صفو النفس وطيبة في الأثر في استشعار أن المال مال الله والرزق آتيك لا محالة بحسب اليقين والتوكل على الله والبذل بالأسباب، في ذلك تهذيب النفس عما تحب وتكره ولذلك يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والمنكر والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم)