ماذا
يعني لك أن تعيش نصف هوية؟
ونصف شخصية؟
ونصف جنسية؟
هو تماماً كما قال جبران: النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز؛ لأنك لست نصف
إنسان.. أنت إنسان.. وجدت كي تعيش الحياة. وليس كي تعيش نصف حياة!
سمعت مؤخراً لبودكاست أصوات وتحديداً حلقة مفقود.
عشت قصة عيدروس بكامل تفاصيلها؛ حزنت عندما اضطر الذهاب من منجا بيسار إلى حضرموت، تعجّبت حينما امتلك حذاءً من نوع (باتا) دون أن
يستخدمه، وابتسمت تارة أخرى عندما انجلت غمامة الكدر وسوء التواصل مع والده عند
زيارته لأندونيسيا.
أعدت الاستماع إليها مجدداً، مجدداً علّني أجد المبرر الذي يدفع ابنه
عبدالرحمن ليتوارى عن حياة اجتماعية خوفاً من تنمّر يصيبه دون أن يكون له يد فيها!
هي أقدار ساقها الله للبشر من حيث النسب، الجمال، الحالة الاجتماعية، المادية،
والجنسية.
أن ترى نفسك بعين التعظيم كونك تحمل جنسيتها لا يجعل منك شخصاً ناجحاً من حيث
البقعة الجغرافية التي ينتمي إليها المواطن والمقيم الذي ولد في تربتها وترعرع في
أرضها وتشرّب من عاداتها وثقافتها حتى أصبح هو و الوطن متلازمين لا إلى حدّ الشبه
بل إلى حدّ الانتماء والولاء الذي يشعر به الرضيع مع ثدي أمه.
تعرّف عالمة الاجتماع الأمريكية روث هيل يوسيم أبناء الثقافة الثالثة بأنهم
الأطفال الذين يقضون سنوات تكوينهم الأولى في أماكن ليست هي موطن آبائهم وأمهاتهم.
وهو أيضاً الاسم الذي يطلق على الأطفال الذين نشأوا في ثقافات غير ثقافات والديهم
أو تلك التي قد تكون موجودة على جوازات سفرهم.
تتحدث نديلا فاي من أم فنلندية وأب سنغالي والمولودة في فنلندا والمستقرة في
لندن في قصة نشرتها على الجارديان عن الأقنعة المختلفة التي ترتادها في كل مرة
يسأل عن موطنها؛ تقول: هو أقرب إلى الشعور بالتحرر من خلال إعادة ابتكار نفسي إلا
أنها تمثّل لي معضلة في هويتي والتعريف بمن أنا؟ لأني ثنائية العرق، ونظراً
لأنني لم أعش في السنغال مطلقاً، أشعر بالغرابة عندما أقول إنني من هناك.
أبناء الثقافة الثالثة هم ضحيّة آباء وأمهات خرجوا للبحث عن لقمة العيش خارج
أوطانهم؛ الدبلوماسيين، البسطاء ذووالأحلام الكبيرة أو أحلام العصافير على حد سواء، من تعايشوا مع عادات البلد
واستوطنت أرواحهم وترسّخت عبرها اللغة والثقافة والقيم إلا أنها في نهاية المطاف
تظل ثقافة هجينة لا تصل إلى مرحلة الاعتراف المطلق بل إلى هُويّة تبنى وفق وعي
الفرد أو أصحاب المصلحة وأحياناً كثيرة إلى الوعي الجمعي المتراكم بالسلب أو الإيجاب.
هي تفاصيل غاضبة ستبقى ساكنة ولن تخرج ولن تسبب بفعلها الاحتقان أو الكره وردّة
فعل غاضبة؛ هي تفاصيل وتساؤلات يعيشها من ينتمي إلى ثقافة الطفل الثالث الذي لا ينتمي
لا إلى موطن ولادته أو موطن جنسيته الذي حملها مضطراً دون معيّة ودون أي رغبة
وإدراك.
قام عالما الاجتماع الأمريكيان ديفيد بولوك وروث فان ريكين بنشر كتاب "أطفال الثقافة الثالثة: النشأة بين العوالم" في عام 1999، واستنتجوا أن لديهم رؤية أوسع للعالم ويكونون أكثر وعياً ثقافياً لكن مع ذلك يمكن لهذا الشعور أن يولّد قلقاً وإحساساً بعدم الانتماء وهو ما يسبب مضاعفات شخصية ونفسية.
وحتى نكون أكثر تفاؤلاً؛ أبناء تلك الثقافة رغم التحديات والصعوبات المواجهة إلا
أنها تعتبر قيمة مضافة من حيث التنوّع الأيدولوجي، التقاطع الثقافي والأرضيات
المشتركة للفرد مع الجماعة بما يتلاءم مع المشهد؛ فهم أكثر انفتاحاً وتقبّلاً
للآخر من غيرهم.
وجد استطلاع عبر الإنترنت أجرته مجلة (Denizen) في عام 2011، وهو منشور يستهدف الأشخاص
المنتمين للثقافة الثالثة في أن معظم المشاركين البالغ عددهم 200 شخص حصل معظمهم
على درجات علمية، و 30٪ لديهم مؤهل دراسات عليا و 85٪ يتحدثون لغتين أو أكثر. كذلك
تساعد هذه السمات في جعل أبناء الثقافة الثالثة أكثر جذابة لأصحاب العمل.
لذلك هي
مسألة ليست بالسهلة الخوض في دهاليزها المتشعبة بما تحملها من جوانب سياسية،
اقتصادية، اجتماعية وثقافية، ولكنها تتطلّب حتماً إلى الثقة الكامنة بالنفس وبترسيخ مبدأ
التعايش وفق القيم والمبادئ الحسنة دون تعميم جوانب الكره لثلّة متعصّبة تندّد
بالمبدأ الصهيوني: " نحن شعب الله المختار ".
لا تثقلوهم بعصبيتكم الجاهلية.
كفانا تعصّب.
هم منكم وفيكم وإليكم؛ شئتم أم أبيتم.
سواء أُخذت من زاويتها الدينية أو زاويتها العقلانية المتجسدة في التجربة البشرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق