الأربعاء، 19 يناير 2022

فراشة الأدب ومأزق الحب

 من عجائب النفس البشرية هي تلك حكاية الحب التي سطّرتها مي زيادة.
مي الفاتنة والجميلة.
مي المثقفة والمتمردة.
مي فراشة الحب والأدب.


بصالونها المعتاد الذي جمع النخب من العقول كل يوم ثلاثاء.
حيث تبنّت الفكرة النسوية؛ وناضلت لأجلها.
أحبّها العقاد والرافعي، وكتبوا إليها ما تختلج به مشاعرهم.
وشوقي وصبري شعروا لها الأشعار على النوع الآخر من الأدب.
وبدل أن تبادلهم المحبة، أن تشاطرهم أحاسيسهم المرهفة.
أحبّت شخصاً آخر.
لم تلتقي به مطلقاً.
سوى بالرسائل والنصوص.
كيف يعقل أن تقع هذه الذكية في هذا المأزق من الحب غير المحسوس،
غير الملموس سوى بالجمل والحروف!
غريب هو أمر هذا الحب.


بدأت الحكاية برسالة محاباة كانت قد كتبتها لجبران إثر قصيدة قد نشرها في الصحيفة.
رسالة تلو رسالة، ومشاعر متراكمة.
حتى تجاوزت الثلاثين من العمر؛ تجرأت على أن تبوح بمشاعرها الدفينة.
برسالة تقول فيها:
" ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولا اختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب "

ثم يرد عليها ضمن رسائله:
" أنت تعلمين أن القلب البشري لا يخضع إلى نواميس القياسات والمسافات، وأنّ أعمق وأقوى عاطفة في القلب البشري تلك التي نستسلم إليها، ونجد في الاستسلام لذة وراحة وطمأنينة مع أننا مهما حاولنا لا نستطيع تفسيرها أو تحليلها، يكفي أنها عاطفة عميقة قوية قدسية
؛ لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
أنا أعلم أنّ القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال "


وقعت حينها بالحب؛ وقعت في حقيقة الأمر بالأسر!
تعلّقت به كثيراً دون أن تنفك عنه إلا أن تلك العلاقة أصابها نوع من الخلل لحين إصابة جبران بالمرض.
الأمر الذي جعلها تقف بجانبه ولم تتركه في محنته بل أحاطته بمزيد من عواطف الحب تارة وحنان الأمومة تارة أخرى!

أهملت المحبوبين جميعهم الشعراء والمفكرين إلا جبران.
انتكست عندما علمت بموت محبوبها البعيد،
وتجرعت محن ومصائب من القريب والبعيد.
حتى أنها أرسلت رسالة لابن عمها في لبنان تقول له:
"منذ مدة طويلة لم أعد اكتب. وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمّد يدي ووثبة الفكر لدي، إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسّه فيّ وحولي. إني لم أتألم في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل. ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه: لا شيء إنه وهم تمكّن مني..."

وما كانت تلك الرسائل إلا ميثاق حب عذري بين كاتبين سطّرا أعجوبة الحب دون أن يحدث لقاء أو اجتماع بينهم يتيم أو وحيد.

ليست هناك تعليقات: