الأحد، 20 يوليو 2025

٣٥ عام

 أبلغ الآن الخامسة والثلاثون.
٢٠ يوليو من كل سنة؛ أجد نفسي بالضرورة أكتب شيئًا ما.
حتى ولو لم أجد فكرة اكتبها، اجتهد أيَّما اجتهاد لكتابة شيء ما، لوضع بصمة ما.
أليست الكتابة فعل خلود؟!

كنت قد اعتدت الكتابة من فترة لأخرى لسنوات عدة عدا أني توقفت عنها لأسباب كثيرة، ولا أعني هنا الكتابة الإبداعية وإنما الخواطر التي لا يقرأها سواي؛ الخواطر التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
أو ربما يقرأها لاحقًا من بعدي لكن بوعي وإدراك حمزة وحامد؛ ملائكتي الآن وطفلاي الصغيران.
في الحقيقة لم أكن أتصور يومًا بأن أتوقف عن الكتابة وها أنا أفعل، رغم اعتقادي بأنها أفضل وسيلة للتعبير كإحدى تقنيات العلاج السلوكي التي تعتمد على فلسفة مواجهة الألم والقلق؛ فهي متنفس وحل نستطيع من خلاله تفكيك العقد والأفكار العشوائية التي تجتاحنا، وهي أيضًا كما شبهها الروائي نبيل الملحم بقوله: " الكتابة هي الفعل الأقرب إلى الاستحمام، فعل إزاء شوائب الجسد، هل تستطيع أنت أن تتوقف عن الاستحمام؟ "

والخاطرة اليوم ولا أعلم إن كانت هناك خاطرة تليها أو ربما في السنة القادمة ولكن هي عن الخامسة والثلاثين.
العمر الذي يصل فيه العقل البشري إلى ذروته الإدراكية كما تشير الدراسات الحديثة، ولا أعلم في الحقيقة عن مدى صحة الدراسة وما إن تمت وفق معايير دقيقة أو مجرد تطبيب للمشاعر باسم الدراسات.

هي أيضًا مرحلة النصف بين البداية والنهاية؛ البداية المربكة حال بلوغنا الثلاثين والنهاية التي ترشدنا للأربعين.. فإما حينها مراهقة عبثية متأخرة أو نضج ووعي عاقل وراشد.

والحقيقة في داخلي أني لطالما كرهت أنصاف الحلول مؤمنًا بقول العبقري جبران خليل جبران وهو يقول مستطردًا وبحكمة بالغة باعتقادي قد كتبها وقد بلغ الأربعين من عمره:

" لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتَّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت.

إذا رضيت فعبِّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبِّر عن رفضك،

لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها وهو ابتسامة أجَّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك.

النصف هو أن تصل وأن لا تصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت.. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه.

نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان "

قال جبران قولته الخالدة ووضعنا في مأزق النصف والمنتصف ورحل.


كانت طموحاتي عالية جدًا فيما مضى؛ فيما يختص بالكتابة والتأليف.

كنت أداعب عقلي بالقراءة فالكتابة كما يداعب الإنسان التافه نفسه بتوافه الأمور.

لاحقًا توقفت.. وتوقف معها كل شيء.

واستمريت دون أكتب لفترة طويلة.

أشعر الآن وكأني فقدت لوهلة شيئًا ثمينًا لم استمر عليه.

حتى جاءت الإشارة، العلامة التي دفعتني للعودة إلى الكتابة؛ وهو العمر الذي كنت اعتقده بأنه ليس إلا مجرد رقم، والواقع بأنه فعلًا ليس رقمًا فحسب؛ فكم من بلغ الأربعين لكنه سفيه، وآخر في العشرين وهو في قمة النضج، العمر دلالة على تراكم الخبرات والاستفادة من الدروس القاسية.


هذه الخاطرة كانت في حينها مناسبة جيدة للكتابة مجددًا.. في عقلي كانت المقدمة سلسة والبداية واضحة ولكن وجدت نفسي أكتب عن شيء مختلف تمامًا؛ عن العزلة الفكرية، الخاطرة السابقة.

وجدت نفسي أكتب دون هوادة.

أكتب كما لو أنها آخر مرة.

وفي الواقع.

الكتابة هي حالة من تفريغ المشاعر المكبوتة.

أو ربما حالة وجدانية تجبرنا على التعري وكشف ما هو مخفي ومستور من منظورنا ككتاب.

والممتع في الأمر بأني شعرت بالراحة بعدما انتهيت منها.

وكأن حملًا ثقيلًا على ظهري قد زال أو ربما نشوة قد بلغتها!

وفي كلا الحالتين.. تظل الكتابة أفضل وسيلة للتنفيس أو القذف.

الجمعة، 18 يوليو 2025

الصوت المسموع

قال أنطون تشيخوف: لا أحد يستمع، الكل ينتظر دوره في الحديث.
بهذه العبارة نستطيع تأصيل وفهم واقعنا المعاصر، ولذلك سمّهم ما شئت: رويبضة، سفسطائيين، فارغين، سطحيين.. طالما يرتدي أحدهم قبعة الحكيم والمستشار ويمارس شهوته بجدارة مطلقة، وببراعة لا متناهية؛ شهوة الكلام.


اعتدنا في الصغر على سماع الحكمة العربية في الإذاعة المدرسية والتي تقول: خير الكلام ما قل ودل، وقال أحدهم: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
لكن اليوم وعلى النقيض تمامًا اختلف المعيار.. أصبح السكوت مشين والصمت نقص ثقة لا هيبة، بينما الكلام سمين رزين رصين ووتين.
لذلك لا يهم فيما تتحدث به، ولا يعوّل أبدًا على مضمون الفكرة ومدى فرادتها لكن الأهم من ذلك هو أن تتحدث حتى يروك كما قال سقراط.
وبقدر ما تتصنع الثقة ضمن حديثك فأنت في حال جيد، ولا يهم أن تكونًا متخصصًا أو عالمًا أو خبيرًا فيما يُتحدث عنه في المجالس؛ حاول أن تتكلم عن الغيبيات والكرامات التي تسمعها شريطة أن تبدأ قولك بــ حدثني فلان وسمعت عن فلان، وإن أردت ما هو أرفع من ذلك فقل قرأت ذلك في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، أو الرسالة القشيرية للإمام أبي القاسم القشيري. جرِّب أن تتحدث عن السياسة وأنت تتصنع دور ضيف ثقيل في إحدى القنوات الإخبارية، وجميع الأنظار عليك تشاهدك بدهشة وتعجب كما لو أنك فعلًا قد امتهنت السياسة لسنوات عدة.
ماذا لو كان الموضوع عن الرياضة أو الموسيقى ولم تستطع مجاراتهم في ذلك النقاش المحتدم؛ حاول أن تمنطق الأمور في صالحك دائمًا فأنت نفس الشخص الخبير السياسي والديني من قبل، اذكر لهم بعشوائية إحصائية حجم سوق الإعلانات في رياضة كرة القدم، ألقي بالأرقام جزافًا لن يدقق أحدٌ بعدك.
انظر للأمور كما لو أنك محور الكون، كما لو أنك مطالب في إثبات مدى ثقافتك العامة ومعلوماتك النخبوية حتى وإن كانت معظمها نتاج متابعة حلقات الدحيح لا مستخرجة من أمهات الكتب.
لذا تصنّع الشيء حتى تجيده بل تتقنه، ولذلك عند الإنجليز يقولون:
!Fake it until you make it

 

أدركت مؤخرًا بأن الثقة هي نتاج إيمان داخلي تعزز من الصوت الداخلي الذي يعيش معك ويخاطبك دون أن تراه؛ لا تعاديه بل صاحبه ليقف في صفك في أسوأ حالاتك وأفضلها. الصوت الداخلي إما أن ينجحك أو يخذلك، فإن نظرت إلى نفسك نظرة ثقة وقوة واعتزاز وجدت من حولك ما هم إلا بشر في أضعف صورة، ما هم إلا أنداد أو سفلة حقراء وبمطلق الأحوال من السهل مجاراتهم طالما امتلكت الثقة، لكن في حال كانت نظرتك دونية فإنك بذلك تسقط جميع قواك الخفية وأنت إلى الهلاك صائر، ولن ينفعك حينها علمك وثقافتك وذكاؤك.

وتأكد يقينًا بأن نِعم الحياة لا تعطى للأذكياء الصامتين ولكن للمتذاكين المتكلمين أو الأغبياء الثرثارين؛ أولئك فقط من يمتلك الصوت المسموع.. وأن من يعمل ويسكت من منطلق أن عملي مرئي ويعبّر عني فهذه من جملة الهرطقات، تجنبها بارك الله فيك.

الجمعة، 4 يوليو 2025

العزلة الفكرية

لدي تجربة شخصية لعلها تكون مفيدة لمن يرغب بأن يعيش مثلها أو على أقل تقدير جزء من تفاصيلها؛ عن قدرتنا على التكيّف في جغرافيا مختلفة عن التي عشناها سلفًا؛ دولة كانت أو مدينة.
أعيش الآن في مجتمع مغاير عن الذي اعتدته، مختلف عن الوطن الذي ولدت فيه، رغم أنه يشبهه في العادات والتقاليد ضمن مجلس خليجي واحد، وهنا أسأل؛ أليس الوطن هو المكان الذي يأوينا ويحتوينا أم المكان الذي نولد فيه؟!

الأمر بطبيعة الحال صعب، أصعب مما اعتقدته.

كنت أزعم بأني قادر على التكيّف مع أي مجتمع كان أو ثقافة ما.
في الشرقية حيث ولدت؛ عشت الهدوء والطمأنينة وهم هكذا أهلها طيبون وبها يمتازون، انتقلت بعدها إلى الرياض العاصمة، 
المدينة التي باعتقادي لا تنام وفي معظم أوقاتها الزحمة والحياة حيث الصخب واللاهدوء وبالمناسبة سكانها هم أيضًا لديهم ميل للحركة المفرطة وكثرة الكلام، ثم إلى أبوظبي المدينة المطمئنة والتي مازلت آتعرف عليها إلى يومنا هذا.


كنت اعتقد بأن الإنسان كائن اجتماعي يستطيع بطريقة أو بأخرى من الانسجام؛  بمعنى أن وعي الإنسان قادر على تكييف عقله من تفعيل المهارات الشخصية والاجتماعية في إيجاد أرضيات مشتركة تتيح له التواصل مع الآخرين؛ لكني فشلت، وهذا الفشل هو تجربة فردية وشخصية لي لا أكثر.
سواء عندما انتقلت إلى الرياض أو الإمارات، ولكن في الأخيرة ضررها أشد لأني أجهل فيها أكثر مما أعرف.
وهذه التجربة غيَّرتني كثيرًا.

جعلتني شخصيًا أعيش حالة من العزلة الفكرية أو الخواء الفكري إن صح التعبير.

ومن واقع الحياة الاجتماعية فهنا حيث أعيش، الناس فيه أكثر تدينا، على أقل تقدير في محيطي وضمن بيئتي؛ لكن هذا التدين خاوي.
ومن واقع الحياة الفكرية وأعني بها الحوارات 
والنقاشات الفكرية مع شخص واعي يثري تفكيرك ويداعب عقلك ويفتح لك أفق جديدة للفهم والتقدير.
كنت ولا زلت أؤمن بأن الإنسان عقل وقلب وجسد، وعلى هذا الأساس فكما أن للجسد وسامة ظاهرية، وللقلب وسامة باطنية تترجم عبر لغة المشاعر، فأيضًا للعقل وسامة ليست مجرد جاذبية مؤقتة بل هي بريق دائم؛ وكما نجوع للحب فإننا نجوع لحوار جيد، للنقاش مع شخص واعٍ، يختلف في الآراء معك أكثر مما يتفق، لا يجاملك ولكن يعلمك.. ولذلك يقال: جاذبية العقل لا تبهت.
الناس هنا سطحيين، تافهين ومملين للغاية.
والرغبة الصارمة التي تدفعني لأن أكون شخصًا اجتماعيًا هو بأن أكون منافقًا.
والنفاق ليست من خصالي أو على أقل تقدير ليست من ضمن المهارات التي أجيدها.. سمِّها ما شئت يا عزيزي المنافق؛ ذكاء اجتماعي أو عاطفي.

وكلما شعرت بالعزلة والخواء شحنت نفسي بالعبارة الخالدة إلى قلبي، تلك التي كتبها ألبير كامو في مذكراته: " لا أحد يعرف أن البعض يبذلون مجهودًا جبارًا فقط لكي يكونوا مجرد أشخاص عاديين " أو بعبارة أخرى المجهود الذي يبذله الإنسان في التكيَّف مع مجتمع لا يرقى إلى مستوى إدراكهم وأفكارهم.

وباعتقادي أن أحد أسباب الشقاء ينبع من عدم إيجاد شخص يفهمك كما هو أنت، فلا تحتاج معه إلى تبرير موقف أو توضيح مقصد؛ هو يفهمك غاية الفهم.
وهذه نعمة قلَّما تجدها عند أحد، ولذلك قال أحدهم: واختر خليل قلبك بحكمة فليست كل القلوب بالقلوب تليق، واختر لنفسك شخصًا إذا قست عليك الأيام؛ يكن لك فيه عشم لا يخيب.