الجمعة، 4 يوليو 2025

العزلة الفكرية

لدي تجربة شخصية لعلها تكون مفيدة لمن يرغب بأن يعيش مثلها أو على أقل تقدير جزء من تفاصيلها؛ عن قدرتنا على التكيّف في جغرافيا مختلفة عن التي عشناها سلفًا؛ دولة كانت أو مدينة.
أعيش الآن في مجتمع مغاير عن الذي اعتدته، مختلف عن الوطن الذي ولدت فيه، رغم أنه يشبهه في العادات والتقاليد ضمن مجلس خليجي واحد، وهنا أسأل؛ أليس الوطن هو المكان الذي يأوينا ويحتوينا أم المكان الذي نولد فيه؟!

الأمر بطبيعة الحال صعب، أصعب مما اعتقدته.

كنت أزعم بأني قادر على التكيّف مع أي مجتمع كان أو ثقافة ما.
في الشرقية حيث ولدت؛ عشت الهدوء والطمأنينة وهم هكذا أهلها طيبون وبها يمتازون، انتقلت بعدها إلى الرياض العاصمة، 
المدينة التي باعتقادي لا تنام وفي معظم أوقاتها الزحمة والحياة حيث الصخب واللاهدوء وبالمناسبة سكانها هم أيضًا لديهم ميل للحركة المفرطة وكثرة الكلام، ثم إلى أبوظبي المدينة المطمئنة والتي مازلت آتعرف عليها إلى يومنا هذا.


كنت اعتقد بأن الإنسان كائن اجتماعي يستطيع بطريقة أو بأخرى من الانسجام؛  بمعنى أن وعي الإنسان قادر على تكييف عقله من تفعيل المهارات الشخصية والاجتماعية في إيجاد أرضيات مشتركة تتيح له التواصل مع الآخرين؛ لكني فشلت، وهذا الفشل هو تجربة فردية وشخصية لي لا أكثر.
سواء عندما انتقلت إلى الرياض أو الإمارات، ولكن في الأخيرة ضررها أشد لأني أجهل فيها أكثر مما أعرف.
وهذه التجربة غيَّرتني كثيرًا.

جعلتني شخصيًا أعيش حالة من العزلة الفكرية أو الخواء الفكري إن صح التعبير.

ومن واقع الحياة الاجتماعية فهنا حيث أعيش، الناس فيه أكثر تدينا، على أقل تقدير في محيطي وضمن بيئتي؛ لكن هذا التدين خاوي.
ومن واقع الحياة الفكرية وأعني بها الحوارات 
والنقاشات الفكرية مع شخص واعي يثري تفكيرك ويداعب عقلك ويفتح لك أفق جديدة للفهم والتقدير.
كنت ولا زلت أؤمن بأن الإنسان عقل وقلب وجسد، وعلى هذا الأساس فكما أن للجسد وسامة ظاهرية، وللقلب وسامة باطنية تترجم عبر لغة المشاعر، فأيضًا للعقل وسامة ليست مجرد جاذبية مؤقتة بل هي بريق دائم؛ وكما نجوع للحب فإننا نجوع لحوار جيد، للنقاش مع شخص واعٍ، يختلف في الآراء معك أكثر مما يتفق، لا يجاملك ولكن يعلمك.. ولذلك يقال: جاذبية العقل لا تبهت.
الناس هنا سطحيين، تافهين ومملين للغاية.
والرغبة الصارمة التي تدفعني لأن أكون شخصًا اجتماعيًا هو بأن أكون منافقًا.
والنفاق ليست من خصالي أو على أقل تقدير ليست من ضمن المهارات التي أجيدها.. سمِّها ما شئت يا عزيزي المنافق؛ ذكاء اجتماعي أو عاطفي.

وكلما شعرت بالعزلة والخواء شحنت نفسي بالعبارة الخالدة إلى قلبي، تلك التي كتبها ألبير كامو في مذكراته: " لا أحد يعرف أن البعض يبذلون مجهودًا جبارًا فقط لكي يكونوا مجرد أشخاص عاديين " أو بعبارة أخرى المجهود الذي يبذله الإنسان في التكيَّف مع مجتمع لا يرقى إلى مستوى إدراكهم وأفكارهم.

وباعتقادي أن أحد أسباب الشقاء ينبع من عدم إيجاد شخص يفهمك كما هو أنت، فلا تحتاج معه إلى تبرير موقف أو توضيح مقصد؛ هو يفهمك غاية الفهم.
وهذه نعمة قلَّما تجدها عند أحد، ولذلك قال أحدهم: واختر خليل قلبك بحكمة فليست كل القلوب بالقلوب تليق، واختر لنفسك شخصًا إذا قست عليك الأيام؛ يكن لك فيه عشم لا يخيب.





 


ليست هناك تعليقات: