قال أنطون تشيخوف: لا أحد يستمع، الكل ينتظر دوره في الحديث.
بهذه العبارة نستطيع تأصيل وفهم واقعنا المعاصر، ولذلك سمّهم ما شئت: رويبضة، سفسطائيين، فارغين، سطحيين.. طالما يرتدي أحدهم قبعة الحكيم والمستشار ويمارس شهوته بجدارة مطلقة، وببراعة لا متناهية؛ شهوة الكلام.
اعتدنا في الصغر على سماع الحكمة العربية في الإذاعة المدرسية والتي تقول: خير الكلام ما قل ودل، وقال أحدهم: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
لكن اليوم وعلى النقيض تمامًا اختلف المعيار.. أصبح السكوت مشين والصمت نقص ثقة لا هيبة، بينما الكلام سمين رزين رصين ووتين.
لذلك لا يهم فيما تتحدث به، ولا يعوّل أبدًا على مضمون الفكرة ومدى فرادتها لكن الأهم من ذلك هو أن تتحدث حتى يروك كما قال سقراط.
وبقدر ما تتصنع الثقة ضمن حديثك فأنت في حال جيد، ولا يهم أن تكونًا متخصصًا أو عالمًا أو خبيرًا فيما يُتحدث عنه في المجالس؛ حاول أن تتكلم عن الغيبيات والكرامات التي تسمعها شريطة أن تبدأ قولك بــ حدثني فلان وسمعت عن فلان، وإن أردت ما هو أرفع من ذلك فقل قرأت ذلك في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، أو الرسالة القشيرية للإمام أبي القاسم القشيري. جرِّب أن تتحدث عن السياسة وأنت تتصنع دور ضيف ثقيل في إحدى القنوات الإخبارية، وجميع الأنظار عليك تشاهدك بدهشة وتعجب كما لو أنك فعلًا قد امتهنت السياسة لسنوات عدة.
ماذا لو كان الموضوع عن الرياضة أو الموسيقى ولم تستطع مجاراتهم في ذلك النقاش المحتدم؛ حاول أن تمنطق الأمور في صالحك دائمًا فأنت نفس الشخص الخبير السياسي والديني من قبل، اذكر لهم بعشوائية إحصائية حجم سوق الإعلانات في رياضة كرة القدم، ألقي بالأرقام جزافًا لن يدقق أحدٌ بعدك.
انظر للأمور كما لو أنك محور الكون، كما لو أنك مطالب في إثبات مدى ثقافتك العامة ومعلوماتك النخبوية حتى وإن كانت معظمها نتاج متابعة حلقات الدحيح لا مستخرجة من أمهات الكتب.
لذا تصنّع الشيء حتى تجيده بل تتقنه، ولذلك عند الإنجليز يقولون:
!Fake it until you make it
أدركت مؤخرًا بأن الثقة هي نتاج إيمان داخلي تعزز من الصوت الداخلي الذي يعيش معك ويخاطبك دون أن تراه؛ لا تعاديه بل صاحبه ليقف في صفك في أسوأ حالاتك وأفضلها. الصوت الداخلي إما أن ينجحك أو يخذلك، فإن نظرت إلى نفسك نظرة ثقة وقوة واعتزاز وجدت من حولك ما هم إلا بشر في أضعف صورة، ما هم إلا أنداد أو سفلة حقراء وبمطلق الأحوال من السهل مجاراتهم طالما امتلكت الثقة، لكن في حال كانت نظرتك دونية فإنك بذلك تسقط جميع قواك الخفية وأنت إلى الهلاك صائر، ولن ينفعك حينها علمك وثقافتك وذكاؤك.
وتأكد يقينًا بأن نِعم الحياة لا تعطى للأذكياء الصامتين ولكن للمتذاكين المتكلمين أو الأغبياء الثرثارين؛ أولئك فقط من يمتلك الصوت المسموع.. وأن من يعمل ويسكت من منطلق أن عملي مرئي ويعبّر عني فهذه من جملة الهرطقات، تجنبها بارك الله فيك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق