يذكر الدكتور محمد عبده يماني غفر الله له وأسكنه جنّات النعيم في كتابه العظيم (علّموا أولادكم حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم) قصّة زواج أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين السيدة خديجة بن خويلد رضي الله عنها وأرضاها، حيث تجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب الشريف في قصي من جهة أبيها، وفي لؤي من جهة أمها؛ فهي قرشية أباً وأماً.
فخديجة بنت خويلد كريمة الأصل، شريفة المنبت، نبيلة الفعال، طيبة المعشر ذات رأي سديد، وفعل حميد، وعمل مجيد رضي الله عنها وأرضاها. فقد تأيّمت بعد زواجها الثاني وعاشت عقيلة قريش وأشرف نساء مكة تتطلع إليها نفوس السادة، وسادة القبائل، وتخطب ودها العظماء والكبراء الأمجاد ولكنها رغبت عنهم وتخلّت عن اتخاذ الزوج إلى إدارة مالها الوافر، وتجارتها الواسعة ورعاية أسرتها.
وتهيأت تجارة خديجة لرحلة تاريخية تقصد البصرة، وقد ذُكر غير مجهول – محمد بن عبدالله الهاشمي – ليقوم في تجارتها فأثنت ورحّبت ووعدت وأضعفت، وأرسلت معه مولاها ميسرة خادماً ومعيناً، وتمضي أيام الرحلة وكل يوم يرى ميسرة عجباً من صدقه وبره، وأمانته وكرامته، ويشهد الأعاجيب من بركة يده في المطاعم والمشارب؛ فهو لا يحلف باللات والعزى كما يحلفون، بل ولا يحلف في بيع ولا شراء حتى يروج تجارته، وكم رأى من التجار قبله من لجاجة وحلف وهو سمح في بيعه وشرائه واقتضائه.
حتى ذلك اليوم الذي عادت القافلة إلى مقرها وسبق ميسرة إلى مولاته يقول ما عنده ويحدّث بما رأى وما سمع وعن الربح والمال والرحلة وعجائبها ولكن قلب خديجة وعينها الساهمة لا تجد في وجدانها ولا لمحاتها إلا شخص محمد.
وكانت خديجة تتحرج مما كانت عليه قريش وقبائل العرب من عبادة الأصنام والأوثان، التي عرفت من ابن عمها ورقة بن نوفل أنها لا تضر ولا تنفع، وأنها تخالف ما في الحنيفية الأولى التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل عليها السلام؛ وها هي ذي ترى أمامها محمداً الأمين الذي شغل أندية مكة بخلقه وصدقه وعظيم سجاياه، فهو لا يسجد لصنم ولا يتقرب إلى وثن، ولا يشاركهم في إثم ولا يعاقر الخمر ولا يقارف مجوناً أو عبثاً.
وتمر الأيام بطيئة ثقيلة، وخديجة في تساؤلاتها الملحة، وآمالها الباسمة، فلقد ساقت الأقدار إليها أعظم الرجال، وهي أشد ما تكون حاجة إلى الأنيس بعد سنوات من التأيم، والعيش بلا زوج تسكن إليه، وتجد في الحامي والنصير والمعين ولكن كيف السبيل إلى الظفر بهذا الزوج الكريم، وماذا تفعل، وماذا تقول، ولمن تبوح بسرها الذي تكتمه عن كل إنسان!
وتلمح صديقتها نفيسة بنت منية شرودها وحيرتها ما تخفيه من أمر نفسها فتسألها عما يدور في أعماقها؛ وتحرجت خديجة أول الأمر أن تفصح عن خواطرها وراجعتها نفيسة في إلحاح ودود حتى دار الحديث حول محمد بن عبدالله عن سبب عزوفه عن الزواج!
فتقول نفيسة: أويرضيك أن يتقدم إليك محمد بن عبدالله خاطباً؟ فتسكت خديجة، ولكنه صمت أبلغ من الكلام فقد تكلمت حمرة الحياء في محياها تعبر عن أمنيتها الغالية وتقول نفيسة: يا ابنة العم سيكون لك ما تريدين!
وتنطلق نفيسة تطلب محمداً فوجدته ثم سألته عن انصرافه عن الزواج وهو زين شباب مكة وابن سادتها الأمجاد من آل هاشم، ويجبيها الفتى الكريم: ما عندي ما أتزوج به. فتقول له نفيسة: فإذا كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والشرف؟ فتقول له: هي خديجة بنت خويلد سيدة نساء قريش؛ خديجة الشريفة التي عمل في تجارتها وعرف نبلها وفضلها وتطلّع الكبراء من قريش إلى اتخاذها زوجة وردها لهم ثم تعرض نفسها عليه؟!
ويحدّث أعمامه فيسرعون في تحقيق أمنيته ويلتقي حمزة والعباس وأبو طالب ويذهبون خاطبين إلى بيت خديجة ويقوم أبو طالب خطيباً فيقول: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم .. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، محمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو بعد هذا والله له نبأ عظيم وخطر جليل"
وتزوجا..
فكانت هي الزوجة، الحبيبة، الصديقة والأم.
كانت له عوناً وسنداً، فقد صدقته يوم كذبه الناس، وأيدته يوم حاربه الناس، وأعطته يوم حرمه الناس، وزملته ودثرته وعضدته، وظل وفياً لها حتى بعد وفاتها رضي الله عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق