أبلغ الآن الخامسة والثلاثون.
٢٠ يوليو من كل سنة؛ أجد نفسي بالضرورة أكتب شيئًا ما.
حتى ولو لم أجد فكرة اكتبها، اجتهد أيَّما اجتهاد لكتابة شيء ما، لوضع بصمة ما.
أليست الكتابة فعل خلود؟!
كنت قد اعتدت الكتابة من فترة لأخرى لسنوات عدة عدا أني توقفت عنها لأسباب كثيرة، ولا أعني هنا الكتابة الإبداعية وإنما الخواطر التي لا يقرأها سواي؛ الخواطر التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
أو ربما يقرأها لاحقًا من بعدي لكن بوعي وإدراك حمزة وحامد؛ ملائكتي الآن وطفلاي الصغيران.
في الحقيقة لم أكن أتصور يومًا بأن أتوقف عن الكتابة وها أنا أفعل، رغم اعتقادي بأنها أفضل وسيلة للتعبير كإحدى تقنيات العلاج السلوكي التي تعتمد على فلسفة مواجهة الألم والقلق؛ فهي متنفس وحل نستطيع من خلاله تفكيك العقد والأفكار العشوائية التي تجتاحنا، وهي أيضًا كما شبهها الروائي نبيل الملحم بقوله: " الكتابة هي الفعل الأقرب إلى الاستحمام، فعل إزاء شوائب الجسد، هل تستطيع أنت أن تتوقف عن الاستحمام؟ "
والخاطرة اليوم ولا أعلم إن كانت هناك خاطرة تليها أو ربما في السنة القادمة ولكن هي عن الخامسة والثلاثين.
العمر الذي يصل فيه العقل البشري إلى ذروته الإدراكية كما تشير الدراسات الحديثة، ولا أعلم في الحقيقة عن مدى صحة الدراسة وما إن تمت وفق معايير دقيقة أو مجرد تطبيب للمشاعر باسم الدراسات.
هي أيضًا مرحلة النصف بين البداية والنهاية؛ البداية المربكة حال بلوغنا الثلاثين والنهاية التي ترشدنا للأربعين.. فإما حينها مراهقة عبثية متأخرة أو نضج ووعي عاقل وراشد.
والحقيقة في داخلي أني لطالما كرهت أنصاف الحلول مؤمنًا بقول العبقري جبران خليل جبران وهو يقول مستطردًا وبحكمة بالغة باعتقادي قد كتبها وقد بلغ الأربعين من عمره:
" لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتَّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت.
إذا رضيت فعبِّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبِّر عن رفضك،
لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها وهو ابتسامة أجَّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك.
النصف هو أن تصل وأن لا تصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت.. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه.
نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان "
قال جبران قولته الخالدة ووضعنا في مأزق النصف والمنتصف ورحل.
كانت طموحاتي عالية جدًا فيما مضى؛ فيما يختص بالكتابة والتأليف.
كنت أداعب عقلي بالقراءة فالكتابة كما يداعب الإنسان التافه نفسه بتوافه الأمور.
لاحقًا توقفت.. وتوقف معها كل شيء.
واستمريت دون أكتب لفترة طويلة.
أشعر الآن وكأني فقدت لوهلة شيئًا ثمينًا لم استمر عليه.
حتى جاءت الإشارة، العلامة التي دفعتني للعودة إلى الكتابة؛ وهو العمر الذي كنت اعتقده بأنه ليس إلا مجرد رقم، والواقع بأنه فعلًا ليس رقمًا فحسب؛ فكم من بلغ الأربعين لكنه سفيه، وآخر في العشرين وهو في قمة النضج، العمر دلالة على تراكم الخبرات والاستفادة من الدروس القاسية.
هذه الخاطرة كانت في حينها مناسبة جيدة للكتابة مجددًا.. في عقلي كانت المقدمة سلسة والبداية واضحة ولكن وجدت نفسي أكتب عن شيء مختلف تمامًا؛ عن العزلة الفكرية، الخاطرة السابقة.
وجدت نفسي أكتب دون هوادة.
أكتب كما لو أنها آخر مرة.
وفي الواقع.
الكتابة هي حالة من تفريغ المشاعر المكبوتة.
أو ربما حالة وجدانية تجبرنا على التعري وكشف ما هو مخفي ومستور من منظورنا ككتاب.
والممتع في الأمر بأني شعرت بالراحة بعدما انتهيت منها.
وكأن حملًا ثقيلًا على ظهري قد زال أو ربما نشوة قد بلغتها!
وفي كلا الحالتين.. تظل الكتابة أفضل وسيلة للتنفيس أو القذف.
هناك تعليق واحد:
🤍
إرسال تعليق